سمعت ربة البيت نقرات خفيفة على الباب ، فتحت وردت التحية على فتاة في مقتبل العمر ، فارعة الطول ، قوية البنية ، شاحبة اللون ، تبدو عليها آثار التعب ، تتأبط كيسا بلاستيكيا ضم بعض أغراضها ، طلبت لقمة تسد بها رمقها .
بعد الطعام شمرت ونظفت البيت والمطبخ ورتبتهما . ثم عدلت ملابسها مستعدة لتوديع أهل البيت . استأذنت السيدة زوجها لاستضافة الفتاة يوما أو يومين ، علمت منها أنها كانت تشتغل عند بعض أقاربها بأحد الأحياء البعيدة . أساء بعض أبنائهم التصرف معها ففضلت مغادرة البيت والانصراف دون علمهم .
اقتنعت السيدة بموقفها ، وقررت الاحتفاظ بها مدة من الزمن ، تخضعها خلالها للتجربة ، وتدرس بمزيد من العناية تصرفها وأحوالها . نالت الزائرة الغريبة إعجاب الزوجين وأهلهم . أتت إلى هذا البيت في الوقت المناسب . السيدة في شهورها الأخيرة من حملها الأول . في أمس الحاجة لمعينة ومساعدة . فاقترحت عليها المكوث معهم بمقابل مالي يسلم لها في نهاية كل فصل من السنة .
قبلت الزائرة الاقتراح . وأبدت المزيد من التفاني في خدمة الأسرة الصغيرة . تتقن الطهي والتسوق وكل أشغال البيت . تعد الطعام للزوجين قبيل انصرافهما إلى العمل . تستقبلهما وتعد لهما كل ما يلزمهما بعد عودتهما . خلال أيام من حلولها بدا البيت أكثر نظافة وأناقة وترتيبا . عملت على غسل الملابس وكيها ، وغسل الزرابي والأغطية ومسح وتنظيف النوافذ والأبواب والجدران . نالت إعجاب كل من السيدة وزوجها . اعتبراها هدية ساقها القدر لهما لمساعدتهما . تعرفا على والديها . ورافقاها لزيارة أهلها بأحد أحياء الصفيح المتمركزة بجوار المدينة .
أسرت الخادمة لأمها بأن مشغلها وعدها بالزواج منها بعد ازدياد مولوده .
وضعت الفرية ثم صدقتها . أخذت تلون وسائل التقرب لإثارة المشغل واستمالته ، وخاصة وقت غياب السيدة عن البيت . لم بعرها أي اهتمام مثير للتعلق والارتباط . يعاملها باستمرار باحترام وشفقة وتقدير . تفسر حنوه عليها بالشروع في انشغال قلبه بها . أوهام تتراكم وتتراكم حتى غدت بالنسبة إليها حقائق يمكن أن ترى رأي العين .
توجس المشغل من تصرفها ، وأخبر زوجته بما يخالجه من شكوك وظنون في سلوك الخادمة . لم تأبه بظنونه . كلما يهمها أن زوجها بعيد كل البعد عن الشبهات . وأن الخادمة تخدم الأسرة بتفان وجدية ونشاط . كثرت مضايقات الخادمة . أخذ يحبذ ملازمة زوجته وخاصة داخل البيت .
كلما اقترب موعد وضع الحمل ازدادت مهام الخادمة وتعددت اختصاصاتها . استغلت فرصة التحاق الحامل بالمصحة فصارحت مشغلها بمشاعرها نحوه . لم يفاجئه ما سمع منها . لأنه عانى من استفزازاتها ومضايقاتها منذ حلولها بالبيت . نصحها - للاحتفاظ على مكانتها وعملها داخل البيت -بصرف نظرها عما تحس به وتفكر فيه .
صدمت بخيبة أمل . شعرت بصاعقة تعصف بكيانها وتدمر كل حياتها . كتمت غيظها واعتذرت عما بدر منها . فرحت بفرح العائلة عند استقبال أول مولود بالبيت . واكبت الأم ولازمتها وأحاطتها ببالغ العناية والاهتمام . في إحدى ليالي الشهر الثاني من عمر الرضيع صرخ الرضيع باكيا بكاء مسترسلا بلا انقطاع . حضر الطبيب فلم يتبين السبب . حملوه إلى المصحة . وهناك فارق الحياة . تألمت بآلام الأسرة . وسرها في أعماقها أن ترى الأب يكتوي بلظى اللهيب ، لموت ابنه البكر . لم تعد طامعة في القرب من مشغلها ، ولكنها تهفو إلى تمزيق أحشائه من الأسى لما بدد كل آمالها في الارتباط به .انصرفت بكليتها إلى إنجاز واجباتها . اعتقد الزوج أنها راجعت نفسها ، وعدلت رأيها . فضاعف أجرها طمعا في عنايتها بزوجته وأهله .
بعد أشهر ، السيدة حامل من جديد . تعد الأيام بالثواني واللحظات . متلهفة لرؤية وليدها الجديد . وبعد ولادته تعهدتهما الخادمة بالرعاية والاهتمام . أمه منهكة متعبة . تقضي الليل كله ساهرة مع ابنها . وتنام عند نومه لتستعد للاحق وتستريح من السابق . تعتمد على الخادمة أكثر من أي وقت مضى .
قبل متم الشهر الثاني من عمر الرضيع صاح فجأة صياح الجريح المتألم . خشيت الأم على ابنها وتوقعت ضياعه كأخيه . طلبت الطبيب ففحصه ولم يتبين أيضا السبب . نفس المصير كسابقه ، في المصحة فارق الرضيع الحياة .
كوارث متلاحقة تتعاقب على الأبوين وأهلهما . ما أن يفرحوا بمولود حتى تختطفه المنية من بين أيدي أمه وخادمتها .
فكر الأب مليا في الأمر . نفس الآلام والأوجاع أودت بحياتهما معا . نقل استغرابه للطبيب الذي اعتبر الأمر جد عادي ، ما دام الرضيع لا يستطيع الإفصاح عن حجم ونوع ومكان آلامه .
الخادمة تشعر في أعماقها بالرضا والارتياح وكأن الموت مسخرة لتنغص حياة من رفض التجاوب مع مشاعرها . لا تستطيع الافصاح عن حقيقة ما تحس به بسبب ما يحدث للأسرة الصغيرة .
توالت الشهور والسيدة حامل من جديد . تفكر في قضاء الأشهر الأخيرة من الحمل عند أمها بمدينة شاطئية بعيدة . وافق الزوج شرط أن تصحب معها الخادمة . ليس واثقا من ثبات نفسه أمام مكائدها وإغراءاتها . فقضى أصعب أيامه وحيدا بالبيت إلى أن أخبر بازدياد مولوده الثالث . الأسرة كلها تعاني من كابوس الآلام القاتلة للرضع . فضلت الأم بقاءها عند أهلها لتجنب رضيعها مصير أخويه من قبله . تجاوز المولود الجديد ثلاثة أشهر من عمره دون أن يمسه أي مكروه . ظنوا أنهم تجاوزا الفترة الحرجة في حياة الرضيع . لعل يد المنون رفعت عن أبناء الأسرة المنكوبة . قرروا العودة إلى البيت بسلام .
ومن الأسرة من اقترح عليهم تغيير البيت ، وآخر نصحهم بزيارة المشايخ . وثالث اتهم الطب وحمل المسؤولية للأطباء .
لم يستطع الأب التسليم بما يقع . لا زال يتوقع حدوث مكروه لابنه . أخذ على نفسه عهد الحفاظ عليه . يراقبه خلسة ليل نهار .
فرأى ذات ليلة بعينيه ماعجز لسانه عن النطق به . الخادمة تأكدت من اسغتراق كل من في البيت في النوم العميق ، فأخذت الصبي بين دراعيها وغرزت بسرعة فائقة في أم رأسه إبرة رفيعة ثم أخرجتها وأعادت الرضيع إلى مكانه ليتابع صراخه . لم يتمالك الأب المكلوم نفسه ، فانقض عليها وضربها على رأسها بآلة حديدية أفقدتها الوعي . ولما علمت الأم بحقيقة الأمر لم تأبه ببكاء ابنها ، فهوت على رأس الخادمة بالمكواة وخنقتها حتى لفظت أنفاسها .
طلب الأب الطبيب ورجال الأمن . فانساقت الأسرة برمتها نحو المصير الجهول