حـــالات للــــــشارع الـرئيـــسي
للشارع الرئيسي المؤدي إلى منطقة القصور حالات عديدة، تصل أحياناً إلى حد التناقض..، ففي الصباح يبدو مكتظاً بالسيارات الفارهة ذات الراكب الواحد في معظم الأحيان، وأرقام وألوان متباينة على نحو يجعل الناظر يعتقد أنه في قلب العالم الجديد،.. وبعض السيارات يمر أشباحاً سوداء يخيل إليك أنها خالية من البشر.. بل يخامرك الشك في كثير من الأحيان بأنها تسير بقدرة خفية، حيث لاترى شيئاً إلا وجهك ينعكس سريعاً متقطعاً على نوافذها.. ويبدو رجال الشرطة المنتشرون على أطرافه وكأنهم أصنام لاحراك فيها اللهم سوى تلك الأكف التي ترتفع وتهبط بشكل آلي بين الفينة والأخرى.
وفي الوقت ذاته تكتظ الأرصفة بالمارة... منهم من يسير سريعاً في اتجاه محدد ومنهم من يجوس بعينه واجهات المحال اللامعة ومنهم من يقف لاحتساء العصير، وبعضهم يعابث الزمن في محاولة واضحة لتقطيع الوقت أو ربما لتحقيق أغراض أخرى.
وعند الظهيرة يتكرر المشهد ذاته مع تعديلات طفيفة.. وجوه رجال الشرطة مثلاً الذين احتلوا أمكنة زملائهم.. وأعداد السيارات وحركة المارة على الأرصفة. وإغلاق بعض المحال على طرفي الطريق، وانحسار الأماكن الظليلة، وكثرة القبعات ذات الاشكال والأحجام المختلفة التي تقي الرؤوس حرارة الشمس، وارتفاع عدد النظارات السوداء التي تركب الأنوف الشامخة أحياناً والمتطامنة في أغلب الاحيان وتفصيلات أخرى يصعب حصرها.
وفي المساء تزداد حركة المارة وتستأنف السيارات سرعاتها الجنونيه لتنهب ظلال الفوانيس المتدلية من أعمدتها على طول الشارع.. وتبني ضجيجها على نحو خاص لاتعرفه الشوارع الأخرى... وفي بعض الأحيان يخلو الشارع تماماً من المارة، وتنعدم حركة السيارات ويبدو الصمت سيد المكان، خلا سيارات من طراز خاص، وناقلات للجند تذرع المكان جيئة وذهاباً، وطائرات مروحية ترصد بدقة وأناة أسطحة البيوت المطلة على الشارع، وبعد طول انتظار يندفع موكب مهيب كأنه العاصفة تتقدمه دراجات الشرطة وتلحق به سيارات فارهة تكاد إطاراتها تسبح في الفضاء...
ثم لايلبث الشارع أن يقبض على حركته وناسه رويداً رويداً، وبعد لحظات فقط يصبح الموكب في عداد المواكب الكثيرة التي اختزنتها الذاكرة لاسيما في الآونة الأخيرة.
هذه الحالات جميعها خبرها جيداً أبو العبد صاحب محل العصير الواقع في منتصف الشارع تماماً.. ورغم ضيق المساحة التي يشغلها المحل حيث لايتعدى عمقه المترين وعرضه بحدود ذلك أو أقل.. حتى ليخيل إليك أنه اقتطع عنوة من المحال المجاورة.. على الرغم من ذلك فقد صار لأبي العبد شأنه الخاص في حياة الشارع، وفي حياة المارة الذين اعتادوا الوقوف أمامه ومداعبته واحتساء عصيره الطيب المذاق...
ويكفي أن تنظر إلى عناقيد الفاكهة المتدلية بسلالها الخاصة أمام الدكان حتى تقف مشدوهاً لرتابتها وحسن تنظيمها وقد رتها على استثارة شهيتك.
وأبو العبد كما يصرح دائماً لاعلاقة له بشيء.. كل مايهمه كسب قوت العيال والحفاظ على ثقة الزبن، ولاشأن له بقرض الكلام الذي يتشدق به الكثيرون.. وإذا ماحاول أحدهم استجراره اكتفى بالقول: دعني وشأني.، المهم أن يكون البلد بخير وأهله بخير أيضاً -وماعدا ذلك فلاشأن لي..
ويبدو أن هذا الأمر معروفٌ تماماً لدى السلطات أيضاً، ففي كثير من الأحيان يطلب من بعض أصحاب المحال اغلاق محالهم ومغادرة المكان عندما يحين الوقت لمرور موكب ما، في حالتي الاستقبال والوداع أو عندما تقتضي الظروف إخلاء الشارع لسبب أو لآخر.
أما أبو العبد فكثيراً مايقال له: أغلق باب الدكان ولابأس إذا بقيت في الداخل حتى انتهاء المراسم المعتادة... كان يعرف تماماً ويعرفون هم أيضاً أنه لايشكل خطراً من أي نوع.. على أن ذلك لاينفي احترازهم المستمر الذي تجلى في مواصلة الدراسة والتمحيص لأحواله الخاصة والعامة، وأوضاع أبنائه سيما الذين يتناوبون أحياناً لمساعدته على تصريف شؤون دكانه المتواضع.. الأمر الذي يجعله باستمرار حريصاً الحرص كله على الحفاظ على مركزه الهام في الشارع، حتى لو اقتضى الأمر تقديم الكثير من كؤوس العصير المجانية لأولئك الأشخاص الذين ألف وجوههم بحكم معايشته لهذا الشارع بحالاته المختلفة.
مساءً كان أبو العبد بقامته المربوعة يقف خلف منضدته، يواصل العمل لتقديم مايلزم لزبنه.. يضغط زراً كهربائياً أحياناً.. وينتقل إلى المغسلة بعد أن يلتقط الكؤوس الفارغة أحياناً، ويمسك بالنقود ليعيد قسماً منها أو يضعها جميعاً في درجه الخشبي المرتكز إلى جدار الدكان.. ويتبادل الأحاديث السريعة مع البعض ثم يرفع طرف وزرته ويسوي وضعه استعداداً لطلبات جديدة وحين يجد فرصة مناسبة يقف قبالة المرآة لينظر في وجهه الأجعد المتغضن ويمر بأصابعه النحيلة على فوديه الأشيبين.. فيلعن الزمن وقسوته الغادرة ثم يستدير سريعاً لمواصلة العمل.
قال أحدهم: كأس عصير لوسمحت.. قالها متلكئاً.. ومانوع العصير ياأخ؟.
برتقال.. أنا معتاد على عصير البرتقال... قال ذلك ببطء لافت للانتباه أيضاً. برتقال... طيب سيكون جاهزاً في الحال.
وبعد جلبة سريعة خلف حاجز زجاجي قال أبو العبد:
تفضل.. برتقال.. هنيئاً مريئاً.
رشفه بتؤدة ثم هز رأسه واتجه نحو باب الدكان، أجال النظر.. طارت عيناه في أرجاء المكان ثم ارتكزتا على أطراف الكأس.. رشفه بهدوء وأناة أيضاً...
رمقه أبو العبد بنظرة سريعة.. كانت ابتسامة واثقة على شفتيه وفي عينيه التماعات متداخلة لم يألفها أبو العبد من قبل سيما وأنه حفظ وجوه الجميع في هذا الشارع...
وبعد أن أفرغ الكأس قال: بلكنةٍ واضحة.. شكراً... ثم أخرج حفنة من النقود وراح يبحث بينها، كأنه أضاع شيئاً.. أو كأنه يبحث عن عملةٍ مناسبة.. واستمر الحال إلى أن عثر على مبتغاه.. وضعها أمام أبو العبد، واستدار منصرفاً نحو الباب
لأول مرة يجد أبو العبد نفسه مضطراً للخروج من خلف منضدته، وقف أمام الدكان والنقود مازالت في يده.
لاحقه بنظرات ثاقبة.. دقق كثيراً في مشيته، التهمه من رأسه حتى أخمص قدميه.. لاحظ شيئاً لم ينتبه له من قبل..
أحس رعباً بداخله... انطوت نفسه على مشاعر لم يكن يعتقد أنها موجودة لديه قبل الآن... قلنسوة على خلفية الرأس!!
ياالهي: كيف لم أنتبه إلى هذا الأمر؟... وراح يسترجع سريعاً دخوله ولكنته وابتسامته وبحثه عن النقود.... جرى خلفه سريعاً ثم توقف، ظلت عيناه عالقتين بقلنسوته حتى غاب في الزحام.. وقف حائراً نظر في يده، قلَّب النقود براحتيه، طارت عيناه في الأفق، طوحَّ بها في عمق الشارع وبصق خلفها.. حتى أن بعضها ارتطم بزجاج السيارات العابرة.. ثم عاد إلى منضدته.. أمسك الكأس الفارغة.. تسمرت عيناه في قعرها جاز بأنفه شفاهها ثم ارتد سريعاً.. أدار وجهه جانباً.. نظر حوله.. ألقى بها في سلة المهملات.
عاد إلى المرآة. حاول عنوة مداراة الدمع في مآقيه.. لعن الزمن وقسوته الغادرة.. حلّ إزاره.. ووقف صامتاً رغم نداءات الزبن وجلبتهم