الـبـحـث عـن مـــلامـحـي
لم أجد ماأفعله هذا اليوم، ليس هذا اليوم فحسب، فكل أيامي تباهتت، وضاقت مسارب الروح فناء الجسد بحملها.
شاهت ملامحي وهي عنوة تقبض على آخر نبض للحياة، صار الزمن ثقيلاً قاتلاً رغم محاولاتي المتكررة للخروج إلى فضاءات جديدة، فالحياة اعتل نسيجها وصار من المستحيل أن أقبض على مفرداتها الجديدة... فذاكرتي مثقلة بتاريخ طويل لايمكن الخروج عن مداره.
قال لي بعض الأصدقاء: أنت لاتقوى على المواجهة، ولاتستطيع الخروج من أوهامك السالفة التي تجاوزها الزمن.. فالبيوت غير البيوت، والشوارع غير الشوارع. والناس غير الناس، ومخيم الذاكرة يبتلعه مخيم اليوم، وأحلام الأمس مزقت أشرعتها وقائع اليوم.
قلت: كيف لي أن أفعل ورائحة السلاح تعبق بها ملابسي، وتنزبها خلايا جسدي، ورائحة الدم تلف ذاكرتي؟
كيف لي أن أفعل وصرخات الأطفال تقض مضجعي، يتردد صداها في أعماقي دوياً هائلاً، وصوت أمي الحزين يقطع أوصال صمتي ونومي محذراً من سقوط الخيام تحت وطأة الثلوج والأمطار.؟
كيف لي أن أفعل وذاكرتي كهوف ودخان وأنين موتى واستغاثات ثكالى وورود مقابر؟ كيف لي أن أفعل وفي أعماقي هتافات غاضبة، ومواويل حزينة، وغناء أطلقته الدماء، وزغاريد مبتلة بالدموع وأشواك ظلت عالقةً بأقدامنا زمناً طويلاً ولازالت تنزصديداً موجعاً حتى يوم الناس هذا؟
نصحني بعض الأشقياء بعد أن أعيتهم السبل بمعاقرة الكأس هرباً من ربقة الذاكرة. رشفته بجنون فازداد صحوي، واشتعلت الذاكرة من جديد، ونهضت أحزاني الهاجعة، واستحال الكأس دماً على الشفاه، وفي قعره نبتت فوهات بنادق مترعة بالدموع، وأفواه تلوك ألسنتها بأيام الرحيل والموت على مفارق الطرق، وعيون مخضلة بالدموع وهي ترقب أسراب الطيور المتجهة إلى هناك.
تناهضت على قدمين متعبين، ارتكزت عيناي في قعر الكأس، ثم جاستا أرجاء المكان،... تعلقت نظراتي بخيوط الفضاء المنبعثة من نافذة خشبية عتيقة، ومن خلالها بدت لي أشجار المخيم ذابلة رغم تطاولها، تنوس ذؤاباتها أمام هبات الريح المحملة بسوّاد المدن ورائحة نفاياتها..... خرجت، دبت قدماي على الأرصفة التي ألفتها منذ زمن.. أصوات كثيرة تداخلت لتعلن عن ترويج بضائع جديدة لم نألفها من قبل، عربات مزينة تنوء بأحمالها، وواجهات لامعة تطل على الأرصفة لتعكس وجوهاً هدها الكد والتعب والانتظار، وبين هذا وذاك بدت كثير من الوجوه تخترق سمرة المخيم وفي حدقاتها تضيع أحلامنا، تابعت السير أبحث عن ملامحي في أزقة المخيم العتيقة، حيث مازالت الجدران تقبض على بقايا صور الشهداء الذين عرفتهم وعرفوني زمناً طويلاً، توقفت أمام إحداها، حاولت جاهداً أن ألملم أطرافها، وأن اقرأ السطور التي بهتت حروفها وعنوة استجمعت بعضاً من ملامحها.. وقفت أمام أخرى لم يبق منها إلا شفتان تنفرجان عن ابتسامة ساخرة، وبعض الأحرف التي قضمت أطرافها إلى حد يصعب معه تركيبها من جديد حيث ضاعت مع سواد الجدار، وتدلى بعضها الآخر مع أطراف ممزقة تعبث بها الريح.
ثم انتفلتُ إلى ثالثة مازالت تحتفظ بالكثير من ملامحها.. أمعنت النظر... العيون كما هي تنظر إليك أينما وقفت، وشعر فاحم أطلقته الرياح، يرتكز إلى جبهة سمراء عريضه، وأنف اتسعت فتحتاة على نحو يوحي بمحاولات متكررة لاستنشاق الهواء في مكان ضيق مظلم، وبدلة "فوتيك" خضراء تحاول ياقتها عنوة أن تطل من تحت كوفيه مخططة التفت حول عنق طويلة.
حاولت أن ادقق النظر أكثر.. أن أقرأ ملامحه من جديد، خطر لي أنه يشبهني تماماً، مررت بأصابعي على شعري الأشعث وجبهتي السمراء العريضة وتحسست ياقتي، ثم سويت الكوفية التي تلتف حول عنقي لتصبح تماماً كما أراها الآن في الصورة التي أقف أمامها.
فجأة تطاولت قامتي فارتفعت إلى أعلى الجدار، صار وجهي قبالة وجهة تماماً.. تحسست أنفاسه الحارة، واستحالت أنفاسي. قطرات من الندى بللت وجهه فأحدثت مسارب عديدة وسط طبقة الغبار الكثيف التي تكدست على وجنتيه الدافئتين.
تمنيت لو أعانقه.. لكني تراجعت، قرأت في عينية عتاباً مراً لم أقوَ على تحمله.. اقتربت مرة أخرى تقريت ملامحه من جديد.. إنه
يشبهني تماماً.. نظرت خلفي.. كانت مجموعة من الرجال تقف وقفتي ذاتها، وأنظارهم تلتهمني حيناً وتتجه إليه أحياناً. قرأت في ملامحه شيئاً من الصحو والدهشة.. الأمر الذي أكد لي من جديد أنه يشبهني فعلاً.. تطاولت قامتي أكثر، وانفرجت أساريري، وانبعثت في داخلي الكثير من المشاعر التي صارت حلماً منذ زمن، تابعت السير وعيون الرجال تلاحقني بشيء من الإعجاب والتقدير، وقبل أن أبتعد كثيراً كانت رؤوسهم تتطاول نحو الجدار والتصقوا جميعاً حتى بدت أجسادهم كتلة واحدة وهي تحاول النهوض.
ومنذ تلك اللحظة صار هاجسي كل مساء أن أبحث عن ملامحي في بقايا الصور التي مازالت تتشبث بجدران المخيم أو تتشبث بها جدران المخيم.