ثـلـج وأحـزان وعــام جــديــد
أسطحة البيوت في المدينة مازالت مثقلة بالثلوج التي تراكمت فوقها خلال الأيام الأخيرة، وهي وإن بدأت بالتلاشي في بعض الأماكن المشمسة لكنها لازالت تعطي لونا واحداً للمدينة كلها، ومع حلول المساء تهب رياح باردة محملة برذاذ ثلجي ينذر بتساقط المزيد في الساعات القادمة.
سكان المدينة يستعدون لمواجهة موجات البرد التي لم تعتد المدينة عليها إلا منذ سنوات قليلة، ويكفي أن تنظر من النافذة لتلاحظ تأهب السكان لمواجهة الاحتمالات القادمة... معظم الناس يرتدي المعاطف الفروية الطويلة، والكثيرون منهم يلفون أعناقهم بشالات صوفية ثقيلة، وبعضهم يرتجف كعصفور ولايجد مايستر جسده إلا بقايا من لباس قديم، وهنا وهناك ترتفع الكثير من المظلات القماشية فوق رؤوس غاب نصفها في ياقات المعاطف.. وبين هذا وذاك تبدو عصافير الدوري وهي تلج المداخن طلباً للدفء.
وفي كل الأحوال تعيش المدينة طقساً خاصاً جداً يتناغم مع فضائها الثلجي المتجمد.
ومع كل ذلك فإن الاستعداد للاحتفال برأس السنة الجديدة يجري كالمعتاد في الكثير من بيوت المدينة.. إعداد الطعام، وأشرطة الموسيقى والتأهب للذهاب إلى مكان ما وارتداء الملابس الجديدة.... وغيرها من المظاهر التي بدأ السكان يهتمون بها في السنوات الأخيرة.
في بيتنا مثلاً بدأ والدي منذ الصباح بإحضار كل مايلزم لاحتفالنا المتواضع الذي اعتدنا أن نمارسه في مثل هذا اليوم من كل عام حيث نلتقي جميعاً.. الأخوة والأخوات والأصدقاء لاحياء هذا اليوم استعداداً لاستقبال العام الجديد.... في المطبخ تراكمت أنواع المأكولات، وفي الصالة الرئيسية وضعت آلة التسجيل، وتخاصرت العديد من المناضد ليوضع فوقها الطعام والفواكه التي أعدت لهذه المناسبة وارتفعت ألسنة اللهب في الموقد الكبير الذي يتوسط الصالة الرئيسية وتم ضبط جهاز التلفاز المتوسط الحجم لينقل إلينا مراسم الاحتفالات التي تعم المدينة والمدن الأخرى المنتشرة في أرجاء الوطن، وربما احتفالات الأقطار المجاورة أيضاً.
ومع حلول المساء تصاعدت حدة الرياح وتساقطت الثلوج فاهتزت النوافذ الهرمة حتى أوشك بعضها على السقوط، وانحنت ذؤابات الأشجار حتى كادت أن تتوحد مع جذوعها، وتلألأت أضواء المدينة وهي تلتف بهالات من الغبش الثلجي الذي بدأ بالتكاثف كلما أوغل الليل.
وبدأت أصوات المحتفلين تعبر النوافذ مقطعةً مرتجفةً، تارةً تحسب الصخب خلف النافذة، وتارة تغيب الأصوات إلا صوت الريح.
وتصاعد دخان البيوت يرسم هالات سوداء متعرجة تركض متناثرة على صفحة الثلوج التي تغطي بيوت المدينة.
رفع والدي بيده النحيلة نخب العام الجديد إيذاناً ببدء الاحتفال وقد بدا أنه يصطنع الفرح وأن شيئاً مافي داخله يوشك على الانفجار، أو قل إن ملامحه عكست شيئاً مافي داخله رغم محاولته إخفاء ذلك.
ومع هذا فقد ارتفعت الأصوات بالغناء والتصفيق، وارتفعت جلبة الصغار والكبار معاً، وعلى شاشة التلفاز بدت مظاهر عديدة: أضواء.. وأشجار مزينة، وحلبات تزدحم بالراقصين، وموسيقا تصم الآذان، وشبان يتحدون الثلوج ويعلنون عن فرحهم بوسائلهم الخاصة...
كل هذا ووالدتي تقبع على كرسي في طرف الصالة، صامتة تفيض عيونها بالدهشة والحزن وهي تلتف بمعطفها الاسود الذي تحسبه لاينطوي على شيء.
تناهضت ببطء شديد وبعد أن جاست وجوهنا جميعاً بعينين غائرتين، أدارت قرص التلفاز نحو محطة أخرى لسماع نشرة الأخبار كما هي عادتها في كل يوم..
كنا جميعاً ننظر إليها بدهشة.. تلاشت جلبتنا حتى انعدمت تماماً وبدأ المكان يقترب من حافة الصمت عدا أصوات بعض الصغار الذين لم يرق لهم صمتنا المفاجيء.. بل لم تخل عيونهم من نظرات احتجاج واضحة..
بدأت الشاشة تعكس جبالاً من الثلوج تسبح في فضاء أبيض حتى ليخيل إليك أن الأفق قد اتصل بالسماء، وفي أحضان الجبال البيضاء بدا العديد من الفتحات السود التي تفضي إلى خيام غمرتها الثلوج.. تطل منها وجوه سمراء تحاول عنوة الصمود في وجه الريح وهي تحمل ملامح التحدي رغم التعب والكد والانتظار.بعضهم يحاول إشعال النار وبعضهم يكسح الثلوج عن بوابات الخيام.. والبعض الآخر يأبى السكون في محاولة لاشتعال الجسد في وجه الكون المتجلد.
وما أن انتهى العرض حتى امتلأت المآقي بالدموع وتوقفت الريح عن نقل صخب البيوت وجلبتها وتقاطعت نظرات الحزن، واشتعلت النفوس بالعديد من الاسئلة عندها نهضت والدتي من مقعدها مسرعة نحو سطح البيت، لحقنا بها جميعاً، أقعت على طرف الجدار وقد انغمست أقدامها بالثلوج وأدارت ظهرها للريح وهي تتكور كطفل.
قال والدي وهو يبدي تعاطفاً واضحاً معها:
أنت لاتقوين على مواجهة البرد.. أنت كومة من عظام.. ماذا ستفعلين لهم؟.. ماذا ستفعلين حتى لوبقيت الدهر كله؟.
ثم قال أخي الأكبر: حياتك في خطر ياأمي.. هيا انهضي لاأحد يعرف عنك شيئاً.. حتى لومتِ تحت الثلوج.
إذا كان مئات الرجال يعاركون الثلوج تحت نظر العالم أجمع، إذا كان الموت يهددهم جميعاً.. ولم يستطع أحد أن يفعل لهم شيئاً سوى نقل صورهم على شاشات التلفاز.. إذا كان كل العالم لم يفعل شيئاً.. فماذا ستفعلين ياأمي؟.
قالت وقد ضاعت عيناها في بياض المدينة وهي تباعد بين شفتيها بصعوبة بالغة. قد لاأفعل شيئاً.. وقد أموت الآن... يكفي أن أكون معهم في هذا اليوم بالذات، يكفي أن أكون مع أمهاتهم وزوجاتهم وأطفالهم في هذه الليلة على الأقل... هذا ما أستطيع.
تحلقنا حولها وقد غرقنا جميعاً في بحر من الحزن حتى نسينا أطرافنا تماماً وقد غطتها الثلوج.. وطارت أنظارنا في الفضاء واستسلم كل منا لشروده وأحزانه التي قطعتها في كثير من الأحيان رائحة المواقد المشتعلة وعصف الريح وضربات القلوب المتعبة.
وبدت أضواء المدينة وهي تقطر دماً وغناءً حزيناً.
حاول بعضنا إقناعها مرة أخرى.. إلا أنها أحجمت عن الكلام وفي عينيها تراءت لنا الجبال البيضاء وهي تحتضن وجوهاً سمراء تشتعل في ثناياها ابتسامات واثقة واصرار على التحدي رغم كل شيء.
غاب بعضنا لحظات. إلا أنه مالبث أن عاد، وحين لاح الفجر بدا الكون جليدياً صلباً يحمل في ثناياه رائحة الموت، وبدت الشمس وهي تحاول عنوة النهوض فما أن تطل أطرافها حتى تغيب مرة أخرى.. عند ذاك... حاولت أمي النهوض فما استطاعت.. اقتربنا منها ببطء شديد كان جسدها قد تلاشى تماماً.. حتى خيّل إلينا أننا نمسك بمعطف مبتل لايلوى على شيءلولا تانك العينان اللامعتان الغائرتان تطلان من بين خصلات الشعر الاشيب المبتل.
نهضنا معاً بصعوبة بالغة ونحن لانملك شيئاً إلا ضربات قلوبنا وتمتمات شفاهنا المتباطئة، وحين استوت على اكتافنا قالت بصعوبة بالغة وهي تئن وترتجف: كل عام وأنتم بخير.. قالت ذلك وقد أسلمت نظراتها لريح الشمال حيث مرج الزهور.. هبطنا أدراجنا في موكب من الصمت يقطعه حفيف أقدامنا ونشيج أبي.. وهو يقول أيضاً كل عام وأنتم بخير وتمتمت شفاهنا بالعبارة ذاتها..
كانت نار الموقد لازالت تحتفظ بآخر ذبالاتها وقد بدا كل شيء في صالة بيتنا رمادياً ميتاً حزيناً رغم خيوط الفجر التي بدأت تعبر النوافذ.