الــمـعـطـف الأزرق
على الرصيف المقابل للمشفى، ثمة رجل عجوز في حالة ترقب واستنفار دائمين، تحمله خطواته المتوترة نحو اليمين تارةً وأخرى نحو الشمال، وفي أحيان كثيرة يندفع نحو بوابة المشفى محاولاً الدخول، فيدفعه الجنود خارجاً، ثم لايلبث أن يعود إلى مكانه على الرصيف المقابل تماماً.
عيناه عالقتان بنافذة في الطابق الثاني للمشفى... هناك تتحرك ظلال عديدة لأناس كثر في حركة دائبة، ظلالهم تحجب النور تارةً ومن خلالهم يتسلل النور تارة أخرى... وأحياناً تهدأ الحركة حتى تبدو الغرفة وقد خلت تماماً..
المصباح الكهربائي المعلق في سقفها يتحرك ببطء شديد، ومعه تتحرك عينا الرجل العجوز الذي يحمل بيمينه معطفاً صغيراً أزرق اللون له ياقة فروية مهترئة، واكمام مخططة بقطعة قماشية فقدت ألوانها بفعل الزمن.. ينظر إليه، يمعن النظر في قبعته المنداة بالدماء يقلب ثناياه الداخلية، ثم لايلبث أن يضعه تحت أبطه ويندفع مجدداً نحو بوابة المشفى.. هناك يدفعه جندي مسلح:
أرجوك.. لحظة فقط
أريد أن أراه، إنه حفيدي الوحيد
اخرج من هنا.. لامجال على الاطلاق
ارجوك.. لحظة فقط..
فوهة البندقية تتجه نحو صدره، وحذاء ثقيل يرتفع... يتماسك، يغالب السقوط، أصابعه الهرمة تلتف بقوة حول قبعة المعطف... يعتصر أحشاءه.. يتناهض ببطء شديد، ثم يعود إلى الرصيف المقابل، فتتعلق عيناه مجدداً بظلال آدمية.. تبدو خلف زجاج النافذة، يدقق النظر، تغوص عيناه في ظلال الحاجبين... يحاول عنوة كشف الظلال المتحركة، تتداخل ملامحها، تتوحد ثم تفترق وتتلاشى قليلاً، ثم تعود لتشكل سداً يحجب النور..
يشعر بالتعب يلف جسده الهرم، يقعي على بلاط الرصيف، ينظر إلى قبعة المعطف يتملى ثناياه جيداً ثم يضمه إلى صدره...
يتابع النظر،... بوابة المشفى مغلقة، ومسلحون يتناوبون الحراسة.. وبين الفينة والأخرى تنهب صمت المكان سيارات الإسعاف التي تتوقف سريعاً ثم لاتلبث أن تغادر المكان بعد أن تفرغ حمولتها من الأجساد الآدمية المهشمة، ومع كل سيارة قادمة، يزداد عدد الواقفين إلى جواره على الرصيف إلا أنه لايأبه لكل ذلك، كل مايهمه أن يعرف مايجري في الداخل، ولحفيده تحديداً..
ياإلهي: في الصباح ذهب باكراً إلى المدرسة بعد أن وضع في حقيبته لفافة من الزعتر وبعض قطع الحلوى، وعند الظهيرة عاد في الوقت المحدد تماماً..
داس عتبة البيت.. نظر خلفه، كان الجنود يركضون في اتجاهات مختلفة ويطلقون النار، أحدهم صوب بندقيته نحوه، فأصابه في رأسه، خر الطفل صريعاً، تخبط بدمه كعصفور، وحين حمله بعض الشبان كان يئن.... يصرخ.... ينادي، قال كلمات لم أفهمها.
حقيبته فقط ظلت على الأرض، ومعطفه أيضاً خلعه الشبان وألقوا به على عتبة البيت، وهاقد شارف الليل على الرحيل، وبدأت تلوح في الأفق خيوط حمراء قانية، ولم أعرف عنه شيئاً..
يتناهض قليلاً، يرفع حاجبيه المتهدلين، لقد سكنت الحركة في الغرفة المقابلة... الظلال الآدمية لم تعد موجودة، المصباح الكهربائي فقط ينوس في سقف الغرفة.
لاأدري، قد لايكون هناك تحديداً، ولكن إحساسي يؤكد ذلك، ثمة رائحة تنطلق من هناك، هي ذاتها رائحة المعطف الذي بين يدي، يخيل إليه أن كفاً صغيرة تلوح له خلف زجاج النافذة... يندفع نحو بوابة المشفى:
أرجوك ياسيدي... دعني أدخل...
ألاتملك قلباً؟
وقبل أن ينتهي الحوار، كان عدد من المسلحين يحملون جثة صغيرة على نقالة بيضاء ويهبطون الدرج.. نحو البوابة الرئيسية.... ارتكزت عيناه فوق جثة هامدة، تتماوج قليلاً مع حركة أقدام الجنود، حدق في وجوههم ملياً، تجمد الدمع في عينيه ثم تراخت يداه، وعلى الأرض سقط المعطف الأزرق الصغير، ومن جيوبه تدحرجت بعض قطع الحلوى وبقايا لفافة الزعتر.
بينما كانت مآذن القدس تغتسل بنثيث المطر الذي حملته خيوط الصباح.