وثــــائــق الــــتراب
الولد الداشر ابن عيوش.. ذاك اليافع الأمرد الذي ينهض على ساقين نحيلين وقدمين لهما لون التراب، يبدو الآن وقد صار له شأن آخر فها هو يحوم حول جموع الفلاحين التي انتشرت على أطراف السهول، يقترب منهم متوجساً، ثم يبتعد، ولا يلبث أن يستقر إلى جانب أمه التي وقفت مع نساء أخريات في انتظار اللحظة القادمة.
ينظر في الوجوه، يتملاّها جيداً، تلوب عيناه في آفاق السهول، وقد بدا مستنفراً كأرنب مذعور،... يشد زناره الكتاني المتآكل... يحاول ستر صدره بأطراف القميص الباهت المهتريء، وتطير عيناه على أطراف السهول التي تبدو ملتحمة بالسماء..
... في الأيام السالفة كان عرضة لتأنيب الجميع وعباراتهم الجارحة.. يا داشر يا ابن الداشر.. أنت الذي أكلت عنب الكروم وسرقت تينها، أنت الذي يقفز ليلاً فوق أسيجة الحواكير ليعبث بمحاصيلها، وأنت الشبح الذي يمر بنوافذ الناس ليلاً... وأنت من يفك أوتاد الخيول والثيران لتغادر زرائبها إلى السهول المزروعة...، حمدان بيك قال له مرة: ستموت يا ابن الداشر إن اقتربت من الحقول شبراً واحداً..
أما في هذه اللحظة.. تبدو الأمور على غير عادتها... حتى حمدان بيك الذي ملك القرية بأرضها وناسها وحيواناتها، وامتص عرق فلاحيها ودمائهم يقف الآن بعيداً عن جموع الفلاحين، ذابلاً باهتاً، وبالكاد يحاول رفع ناظريه..، حتى وجهه المنتفخ بالحمرة يبدو الآن مثل حذاء محروق، وجسده الضخم الذي عهدناه متكوراً فوق ساقين تزينهما جزمة جلدية لامعة ذات أقواس حديدية في مقدمتها ومؤخرتها.. يبدو الآن رخوّاً متهدلاً كجسد وعلٍ مهزوم.
والأمر الذي أدهش الولد ابن عيوش أن بعض الفلاحين ربت على كتفه، وطيَّر بعضهم ابتساماتهم في وجهه الذي أحرقته الشموس...
أحس بشيء من الألفة لم يعرفه من قبل.. أنفاس الناس.. ابتساماتهم.. لغطهم.. توجسهم.. أفراحهم التي بدأت تملأ مساحات الوجوه، ومآقي العيون التي تلتهم الطريق المؤدي إلى القرية، والذي بدأ ملتوياً بين الهضاب، لامعاً تحت ندى الصباح...
تناهض بعضهم.. ومال البعض يميناً أو شمالاً.. ووقف آخرون فوق نتوءات الأرض المرتفعة، وارتفعت الراحات الخشنة لتظل العيون.. وهي ترقب اللحظة القادمة.
وحين برزت مجموعة من سيارات اللاندروفر الحكومية وهي تنحدر سريعة نحو القرية دب الهرج والمرج، وارتفعت أصوات، وخفقت قلوب، وجفت شفاه، ودمعت عيون، وارتفع الدعاء... وساد بعض التوجس والخوف.
بعضهم بدا واثقاً مما سيحدث الآن، وبعضهم لازال يعتقد أن الأمر لن يتم... وهم في كل حالاتهم يقبضون على أعصابهم المستنفرة كلما اقترب هدير السيارات والتمع زجاجها تحت أشعة الشمس التي صارت على ارتفاع العيون. هبط الرجال، وهبطت معهم لفائف الحبال وبكرات القياس وسجلات وأوراق، ومكبرات الصوت اليدوية، وعلب الدهان الملونة.. وعلى رؤوسهم ارتفعت طواقي كتانية لها أشكال مختلفة، وكوفيات حمراء وبيضاء مخططة، وعلى أنوف البعض نهضت نظارات عاتمة، وفاتحة، ومستديرة، وبيضوية، وخلف الآذان امتدت أقلام ذات أطوال وألوان مختلفة،.. ومن خلفهم سارت جموع الفلاحين لتنتشر في كل السهول المحيطة بالقرية. بعض النسوة بدأن ربما لأول مرة يتوسطن جمع الرجال.. يتأخرن قليلاً ثم يتقد من بخطىً ثابتة رغم نظرات بعض الرجال المسروقة من تحت أطراف الكوفيات المتدلية.. لأول مرة لم يجرؤ أحد من الرجال أن يتساءل عن سبب وجودهن بين الجموع..
والكل يعرف أن وثائق التراب ستقلب حياة الناس وبعد وقت قصير جداً... بعض كبار السن يحاولون الوثوب خلف المجموعات المتحركة عبر محاور السهول الفسيحة، وبعض الصبية تلونت أقدامهم العارية بحمرة التراب وهم يتقافزون متفحصين الوجوه والطواقي والنظارات وآلات القياس ومكبرات الصوت اليدوية والأوراق التي بدأت أطرافها تغازل نسائم الحقول.
وما أن ارتفع الضحى، حتى كانت الكثير من الأسماء تلهج بها حناجر الجميع.. أسماء لأول مرة تدخل فضاء السهول على هذا النحو الذي تدخله الآن.. الآن صار للأسماء طعم آخر، صار لها تراب وسهل وحجر وحدود مرسومة وأوراق تحملها لتنقلها إلى عوالم أخرى... الكثير من الأسماء صار لها صدىً جديداً.
الأرملة هليل راحت تدفن وجهها في التراب، ثم ترفع عقيرتها بالدعاء.. وتبكي..، ترفع التراب بين يديها... الآن صار لي تراب، الآن تخلصت من العمل في حواكير الناس، الآن صار لأولادي مساحة من الأرض، يركضون فيها دون أن ينهرهم أحد...، الآن أنا هليل بدمي ولحمي.. ها أنا أقف بينكم... أين حمدان الكلب؟
كنت أعمل ليلاً ونهاراً بليرة أو نصف ليرة، الآن صار لي تراب، ثم تذروا التراب بين يديها، وتعود لتدفن وجهها من جديد في حمرة السهول... الله ينصر الحكومة.
رجا الخليل صار يرقص، ثارت حوله زوبعة من غبار، أمسك الكوفية والعقال هزهما، ثم رماهما في حضن السماء، وضحك.. ضحك حتى البكاء، ثم انبطح على التراب وراح يتمرغ وهو يصرخ.. أنا رجا الخليل سيكون لي محراث وفدان وبيدر واسم في دفاتر الحكومة، أين حمدان الكلب؟..
ثم راح يركض وهو يضع الحجارة الكبيرة والصغيرة على حدود التراب الذي صار ملكاً له الآن، وينادي الرجال والنساء ليكونوا شهوداً على فرحه وبكائه ووثيقة التراب التي تسلمها الآن.
محمود الشاعر الشعبي الذي عرفته القرية صوتاً نقياً مؤثراً.. بدا متجهماً وقد غرقت عيناه بالدموع، وهو يمسك القلم يضع توقيعه على وثيقة التراب التي ارتجفت بين يديه... حرك القلم وعيناه تطيران في أفق السهول، ثم خنق بكاءه وهو يحاول الجلوس على التراب.
الحاج عواد صانع المحاريث، كان كلما سمع اسماً جديداً يضع في جيبه حصاة.. حتى إذا مرَّ الوقت انتحى جانباً ليعدَّها.. يعدَّها ويضحك.، وهو يمرط ذقنه النابتة،.. آه.. المحاريث ستكون كثيرة، والرزق سيكون وافراً.. يا رب سترك..
كل هذا والولد ابن عيوش يحوم حول أمه ينظر في وجهها، ووجوه الرجال من حولها.. يبتعد قليلاً ثم يقترب.. يعاود النظر من جديد.. يستجمع حواسه كلها.. ماذا سيقولون له الآن.. سيفر.. سيقفز سريعاً كما في المرات السابقة..
الآن اقترب كثيراً، شاهده الجميع.. لم يسمع كلمة، لم يقل له أحد.. يا داشر يا ابن..، حين غمست أمه عيوش بطن باهمها في علبة الحبر الأزرق ووضعتها على الورق.. تناهض على كعبيه، مدَّ رأسه من تحت أبط الرجل الذي يحمل السجل.. راقب باهتمام تلك المساحة الزرقاء التي خلفها باهم والدته، نظر في وجهها.. أمسك باهمها.. وضعه أمام عينيه، سحبت يدها سريعاً.. مرت بها فوق شعره المتناثر وهي تداري دموعها..
أمسك بأهمها من جديد.. وضغط باهمه فوق المساحة الزرقاء.. وحين انتقل إلى باهمه شيء من لون الحبر.. نهض في داخله ذاك الطفل الذي نسيه منذ زمن، دواس...
دواس المحمود الذي كان شاهداً على موت أبيه تحت سياط حمدان ورجاله. أحس برغبة شديدة لثدي أمه، تمنى أن يرضع الآن، وينام على صدرها، الذي صار مثل صدر الحقول.