الـــطـــلـقـة
مع كل انفجار جديد، كانت تضيق حولنا دائرة الموت..
اشتعلت قمم الجبال لهباً ودخاناً وموتاً، وفي بطون الأودية تراكمت سحب سوداء قاتمة تحمل في طيّاتها ومضاً خاطفاً لطلقات وشظايا متناثرة ولَّدتها كتل معدنية متدلية من بطون الطائرات المعادية التي نهبت سماء المنطقة... وبين الفينة والأخرى تنطلق رشقات متلاحقة للمقاومات الأرضية من مواقع مختلفة على سفوح الأودية وفي بطون غابات البلوط والسدر والقندول واللوز.
اكتست وجوهنا بلون الهباب الأسود المحترق، وعلقت الأشواك بسراويلنا وأجسادنا التي حملت في ثناياها دماءً حفرت مجاريها حتى استقرت في بطون الأحذية، أو صارت بقعاً ذات أشكال مختلفة فوق ملابسنا ونحن نسير متنقلين بين ظلال الصخور ومنحنياتها وكهوفها بحثاً عن الحياة. تابعنا السير أطفالاً وشيوخاً ونساءً ومواشي وكلاباً مذعورةً.. ولهاثاً حاراً ودموعاً وأحزاناً وغضباً وخوفاً... وحين حل الظلام صارت البلاد جمراً حارقاً موزعاً في الأمكنة كلها، وارتفعت في السماء قناديل الإضاءة، فبانت الطرقات والأشجار والمعابر والرؤوس خطوطاً سوداء متعرجة، وظلالاً تظهر حيناً وتختفي أحياناً.... وعلى الطرف الآخر بانت لنا قرى متخاصرة أطلقت نوافذ بيوتها بصيصاً باهتاً لأنوار خجلى تنبعث من مصابيح هرمة تحاول عنوة إنهاض فتائلها المغموسة بالوقود ونباح كلاب شاردة بدت وكأنها تنذر أصحابها بقوافل القادمين عبر الحدود،... وحين تبتعد الطائرات قليلاً، وتبتلع الأودية أصوات الانفجارات كنا نسمع لغطاً عميقاً وأصواتاً متداخلة عبر ندى الليل ثم لا تلبث أن تضيع حين تعاود الطائرات انقضاضها وتستأنف المدافع إطلاقها.
أعيتنا سبل البقاء وبدت خيوط الحياة حلماً نحاول الوصول إليه كلما اتضحت أمامنا ملامح القرى المنتشرة على الطرف الآخر من الحدود، ولاسيما ذاك البيت الذي يتشبث منفرداً بأطراف القرية التي تبدو أمامنا الآن... يبدو أحياناً قريباً جداً، ثم يبتعد وكأنه يركض أمامنا على السفوح وفي اللحظة التي نعتقد فيها أن أسواره صارت تحت أقدامنا نكتشف فجأةً أن مسافة كبيرة مازالت أمامنا.... الليل كما يبدو له مسافاته الخاصة، وحساباته الخاصة أيضاً، والرغبة في الحياة تجعلك تمسك بكل الخيوط مهما كانت واهنة.
صارت أجسادنا أشباحاً في عمق الليل، واستنفدت مآقينا الدموع، والتصقت ملابسنا بجفاف دمائنا، وغابت أصواتنا إلا من أنين متعب حزين، ولهاثٍ لم يعد قادراً على اجتياز شفاهنا، ونحن نقف أمام رجل ينهض على ساقين طويلتين وقدمين عاريتين لهما صلابة الصخور والتماعها، وعلى ذبالة السراج بدا صدره مفتوحاً نهض شعره حتى اجتاز أطراف سترته... عرفنا فيما بعد أنه مصطفى الطافش صاحب البيت الذي نأوي إليه الآن.
تناثرت أجسادنا على مساحة البيت وتداخلت الرؤوس والأقدام والأحذية والأنوف والمشاعر والأفواه الفاغرة، واستحال اللهاث فحيحاً جافاً، والعيون مصابيح مطفأة تحاول عنوة مقاومة السقوط في محاجرها.
وحين استقبلت حناجرنا بعض قطرات الماء وقطعاً صغيرة من خبز التنور الجافر تحركت أجسادنا كجراء ولدت للتو وهي تواجه النور،... وفي اللحظة التي اعتقدنا فيها أننا تجاوزنا دائرة الموت، بدأت أصوات طلقات تئز فوق رؤوسنا وأصوات انفجارات تقترب من المكان.
نهض مصطفى الطافش مذعوراً... واستل بندقية قديمة لها حمالة قماشية متسخة، كانت تنام في طيّات الفراش الذي نهض فوقها زمناً طويلاً.. ثم راح يصرخ.. أين الطلقة يا امرأة؟ أين الطلقة يا زعيلة...؟
أين الطلقة يا بنت الـ...؟
نبش الفراش مرة أخرى، فتح صندوقاً خشبياً، نثر الكثير من الأمتعة، انتقل سريعاً إلى حجرة مجاورة، بحث في الكثير من جيوب الستر والمعاطف المهترئة التي ارتفعت فوق مساميرها على جدران البيت، ثم واصل البحث والصراخ... أين الطلقة يا بنت الـ...؟
بينما اشتد أزيز الرصاص ونحن ندخل دائرة الموت من جديد.
قالت زوجه: الآن تذكرت الطلقة يا ابن الطافش؟؟.ألم تر البرق في أفق البلاد منذ أيام، بل منذ أعوام...؟!.
ثم اجهشت بالبكاء ونحن نبحث عن أقدامنا ونور عيوننا .