مـاحــدث لــوالــدي
عينا والدي لهما صفاء الماء، رغم العروق الحمراء الدامية التي تلونهما أحياناً، وحين كنت أنظر فيهما يخيل إلي أني أرى وجهي متكسراً بين أهدابه، بل يخيل لي أحياناً أني أدخل في أمداء بعيدة كتلك التي يلاحظها المرء في عيني صقر من صقور السماء..، وينتابني هذا الشعور حين كان يقف محدقاً في أفق السهول البعيدة وهو يرقب قطعان الماشية خلال رحلتها إلى الأودية والهضاب المحيطة بالقرية، أو وهو يتابع قوافل الفلاحين وهم ينتشرون على أطراف السهول، أو حين يجلس لتنظيف بندقيته حيث يقطب حاجبيه تارة ويفتحهما تارة أخرى أمام فوهة البندقية، أوحين يلقي بجسده على أطراف البيدر وهو يطلق عينيه في الفضاء، ويتعزز لديَّ الشعور ذاته حين تتراقص عيناه غضباً من أمر ما..
وفي كل هذه الحالات كنت أنظر إليه خلسة حيث لم أجرؤ يوماً على مواجهته والتحدث إليه إلا أذا كنت متطامناً وجلاً، أفعل ذلك رغم شعوري بفيض حنانه يغمرني كلما تحدث إلي عن السهول والأودية والمواسم القادمة.
ولكن الذي حدث آلمني كثيراً، وأوقعني في حيرة بالغة ووّلد لدي مشاعر خاصة جعلتني أنام وأصحو على حركته وأنفاسه ونومه وصحوه وانفتاح أهدابه واستدارة عينيه وشكل كوفيته وقنبازه، وتبدل ملامحه.. صار همي أن أرقبه في كل حالاته لأجد تفسيراً واضحاً لما حدث..
عيناه تحتفظان بكل بريقهما الذي أعرف رغم غلالة الحزن الطارئة على مآقيه، وأهدابه لا تزال على اتساعها الذي عرفته منذ اللحظة الأولى التي حملني فيها بين ذراعيه وأنا لا أزال طفلاً رضيعاً يعبرنحو الحياة...، وجسده لازال كما أعرفه أيضاً ينهض على ساقين طويلتين وينتهي بعنق ضخم يذكر بجذوع أشجار البلوط المعمرة في أودية القرية وهضابها، صحيح أن صوته لم يعد يرتفع كما كان حيث صار صامتاً في كل أوقاته، حتى حين تحدثه والدتي يجيب بكلمة أو اثنتين وفي معظم الأحيان لا تفهم ما يقول...حيث يتابع شروده وتحديقه في الأفق بعد أن يطلق أنفاسه التي يبدو لي أنه حبسها منذ زمن حتى أحرقت صدره فتعذر احتمالها..
وصحيح أنه صار يلف كوفيته على رأسه دون عقال على غير عادته، حتى أن العقال اختفى عن رأسه تماماً ولم يسأل عنه كما كان في السابق يوم كان يقف أمام المرآة يضعه يميناً أو شمالاً، ويحركه مرات متلاحقة إلى أن ينهض فوق رأسه كما يشتهي..
كل هذا لاحظته فعلاً، لكني لم أجد تفسيراً كافياً لما حدث له في الآونة الأخيرة...فمنذ أن تداخلت الخيام وانكشفت أسرار الناس وتوحدت أنفاسهم وأحزانهم وأحلامهم، وصار سمرهم الذكريات ومفاتيح البيوت وأسماء الأمكنة وصور الشبان الذين لم يعودوا.. لم يعد والدي يرى شيئاً، كف بصره تماماً، فإذا خرج من خيمته تعثر بأوتادها، وإذا حاول العودة إليها دخل خيمة أخرى حيث تشابهت الأبواب والأوتاد..، وأشكال الخيام وصمت ساكنيها وصخبهم، وبكاء أطفالهم، وأنين شيوخهم، ورائحة أطعمتهم وألوان فراشهم، وفي كثير من الأحيان كان يرفض الدخول إلى الخيمة ويمضي نهاره في العراء.. وإذا حدثه أحدهم قال له: لا أراك .. اتركني أو دعني أجلس على التراب.. يقول ذلك، وعيناه في الفضاء كما كان يفعل في أيامه الخالية..
ياإلهي : مالذي حدث..؟
عيناه كماعرفتهما، وجسده كماعرفته..
ورغم أني بدأت أتلمس تفسيراً لما حدث حيث صارت هذه الحالة ملازمة لكثير من الرجال والنساء في المخيم، إلا أني قررت مراجعة الطبيب في المدينة المجاورة..
قلت لوالدي: انظر تلك الشوارع الواسعة، والسيارات الراكضة نحو أنحاء المدينة المختلفة، والرجال والنساء الراكضين أيضاً دون وجهة محددة ألا ترى كل ذلك يا أبي..؟
قال وقد أطلق بريق عينيه ونار صدره:
لا أرى شيئاً مما تقول، ماأراه فقط تلك السهول والجبال والأودية والينابيع المتآلفة مع صخورها...
ولا حاجة بي للطبيب، فهو لا يملك شيئاً مما أريد..
أنت وحدك من يملك نور عيني..
أنا ياأبي ؟!..
نعم أنت..
وقفت أمامه، كان وجهي منكسراً في بحر عينيه وهو يحدق غاضباً في الأفق،.... وقد انفجرت في رأسي ينابيع من دماء ، وأحزان ورصاص ، صار ومضة بريق عيوننا...