انــتــظــار
حين حمل الرجال بنادقهم وغرَّبوا ... بكت فاطمة الحمد.. ارتفع نشيجها.. رغم محاولتها خنق بكائها..
حبست نحيبها بشفيف عصبتها السوداء الباهتة ، وهي ترنو إلى الرجال يهبطون في حلق الوادي حيث سيعبرون النهر إلى البلاد.. قبل قليل قالوا لها:
خبز التنور طيب يا فاطمة..، فيه رائحة البلاد وأنفاس الأمهات، سنذكرك حتى ونحن في قلب الموت، سنذكرك هناك حيث لا شيء يسكن قلوبنا إلا رائحة التراب والبارود وخبز التنور وذكريات الأهل وأنفاسهم ، وأحلامهم ، وآثار خطاهم..
وحين نعود .. سنرتاح ونأكل ونحدثك عن رحلتنا وعرقنا ودموعنا وخوفنا وإصرارانا وهدايا أطفالنا..
تذكرت الكثير من قوافل الرجال الذين مروا بها في الليالي المعتمة .. والكثير من الرجال الذين نهضوا أمامها مع صباحات البلاد الندية، وهم يحملون جوعهم وجراحهم وابتساماتهم، في كل مرة كانت توقد نارها لتنضج الخبز الذي يستحقون..
وفي كل مرة كانت تبكي وهي تودعهم.. تبكي وهي تضع لهم أرغفة الخبز في حقائب الرصاص، وفوق أحزمة القنابل التي تلف بطونهم..
وتبكي كثيراً حين تغيّبهم الأيام ولا يعودون..
في كل مرة تدور في المكان تنتظر قدومهم، تظل عيونها في عمق البلاد ترقب خطاهم وأنفاسهم وهمهماتهم وهم يعبرون الأودية والغابات ومعارج الصخور نحو بيتها المطل على خضرة السهول والجبال العامرة بصدى الأحلام والذكريات..
تجمع الحطب، وتنتظر..، ويظل التنور مستنفراً..
وكلما ارتفع ومض أو دوى انفجار، أو لعلع رصاص ينبض قلبها بالدعاء.. مع السلامة ياحبايب.. قالت وهي تمسح وجنتيها وتحاول عنوة ملاحقة الظلال التي أوغلت في عمق الظلام، حتى بدت كوفياتهم نوارس بيضاء تمخر عتمة الغابات والجبال..
ومع ندى الصباح كان التنور ينتظر قدح الزناد، وهي تجوس الأودية والهضاب والطرقات بعينين تفيضان بالرجاء..