نزول القرآن على سبعة أحرف
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
من موضوعات علوم القرآن التي تتشعب فيها الآراء "نزول القرآن على سبعة أحرف" فهو موضوع شائك، صحَّت أحاديثه، وتعددت طرقها بما يشبه التواتر، ونحن في هذه الكلمات نوضح معنى الأحرف السبعة الواردة في الأحاديث، ونستعرض آراء العلماء في هذا الموضوع، والوجوه التي تختلف فيها لغات العرب، وكذلك الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف.
اختلاف اللهجات العربية
إن هذه الأمة المنتشرة في الأصقاع المترامية في شبه جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق، رغم أنها كانت تتكلم لغة واحدة، فإنها بالاتصال مع غيرها من الأمم واقتباسها منها، وانفراد كل قبيلة عن بقية أمتها، جعلها مختلفة عن غيرها في النطق باللغة من وجوه حتى غدا لكل قبيلة منها لهجة خاصة.
ولقد أسمى علماء اللغة الإسلاميون هذه اللهجات "لغات" تجوُّزًا، وألفوا فيها كتبًا عرفت ب(كتب اللغات)، وتسمى هذه اللغات في اصطلاح علماء اللغة المعاصرين "لهجات". واللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث هي مجموعة من الصفات اللغوية التي تنتمى إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة.
الوجوه التي تختلف فيها لغات العرب
تختلف اللغات العربية في بعض الكلمات والتراكيب؛ فيقول بنو تميم في صيغة فعل الأمر من المضاعف: شُدَّ، وضُنَّ، وفِرَّ، واستعدَّ، واصطبَّ يا رجل، واطمئن يا غلام. بينما يقول أهل الحجاز: أشدُدْ، واضنُنْ، وافرِرْ، واصطبِبْ، وأطمأنِنْ. (يقال: اصطب من القربة ماء: صبُّه منها ليشربه).
وذكر القرآن لغتين في (استطاع) قال تعالى: قال إنك لن تستطيع معي صبرا {الكهف:67}، ثم قال في آخر القصة ... ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا {الكهف:82}، وفيه لغة ثالثة، استعتُ "بحذف الطاء كحذف التاء". ولغة رابعة: "أسطعت" (بقطع الهمزة مفتوحة).
وكذلك كلمة (قسطاس) فيها سبع لغات منها: قسطاس، وقِصطاس، وقستاط، وقِسَّاط وقَسَّاط، أما لغة عرب اليمن (حمير ومن معهم) فإنها أكثر بعدًا عن لغة بني نزار: مثال ذلك: حكى الكسائي عن قُضاعة أنها تقول: مررت بَهْ "بفتح الباء" والمال ِلهْ "بكسر اللام مع سكون الهاء فيهما".
قال ابن فارس في فقه اللغة: "اختلاف لغات العرب من وجوه":
أحدها: الاختلاف في الحركات، نحو: نَستعين ونِستعين بفتح النون وكسرها. قال الفرَّاء: هي مفتوحة في لغة قريش. وأسد وغيرَهم يكسرها.
والوجه الآخر: الاختلاف في الحركة والسكون نحو: مَعَكم، ومَعْكم.
ووجه آخر: وهو الاختلاف في إبدال الحروف، نحو: أولئك، وأولالك ومنها قولهم: إنَّ زيدًا وعِنَّ زيدًا.
ومن ذلك: الاختلاف في الهمز والتليين، نحو مستهزئون، ومستهزون.
ومنها: الاختلاف في التقديم والتأخير نحو: صاعقة، وصاقعة.
ومنها: الاختلاف في التذكير والتأنيث، فإن من العرب من يقول: هذه البقر وهذه النخل. ومنهم من يقول: هذا البقر، وهذا النخل. وكل هذه اللغات منسوبةٌ إلى أصحابها.
الأحاديث الواردة في السبعة الأحرف
وهي كثيرة نذكر منها حديثين:
الأول: أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس أنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أقرأني جبريلُ على حرف فراجعتُهُ، فلم أزل استزيدُه ويزيدُني حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، زاد مسلم: قال ابن شهاب: بلغني أن تلك السبعة إنما هي في الأمر الذي يكون واحدا لا يختلف في حلال ولا حرام.
الثاني: وأخرجا أيضا عن عمر بن الخطاب أنه قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يُقرئْنيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكدِتُ أساورُهُ في الصلاة، فتصبرتُ حتى سَلَّم، فلببتهُ بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتُك تقرأ؟ فقال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقلتُ كذبت، فإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأنيها على غير ما قرأت. فانطلقت به أقودُهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت إني سمعتُ هذا يقرأُ بسورة الفرقان على حروف لم تُقرئْنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرْسِلْهُ، اقرأ يا هشام"، فقرأ عليه القراءة التي سمعتُه يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذلك أنزلت"، ثم قال: "اقرأ يا عمر" فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذلك أنزِلَتْ، إن هذا القرآن أُنزِل على سبعة أحرف فاقرؤا ما تيسر منه".
معنى الحرف:
أصل معناه: طرف الشيء وَحَدُّه الذي ينتهي إليه. وقد ورد بمعانٍ متعددة منها: الطرف والحدِّ والجانب والناحية وسمي الواحد من حروف الهجاء "حرفًا" لأنه جزء من كلمة وطرفها، ويستعمل في الدلالة على وجه من وجوه القراءة المتعددة، وتسمى قراءة كل قارئ حرفًا، يقال: حرف أُبيّ بن كعب، وحرف ابن مسعود... أي قراءته.
وبالمطابقة بين هذه المعاني اللغوية لكلمة "حرف" وبين ما جاء في الأحاديث الدالة على نزول القرآن على سبعة أحرف يتبين أن أنسب هذه المعاني بالنسبة لكلمة (حرف) في الأحاديث هو: (الوجه) أو الجهة التي يؤدَّى عليها الشيء، وكيفية التصريف والتغيير فيه، كما تؤكد أن ذلك التعدد أيضا كان في الأداء اللفظي فحسب دون أن يتناول تغيير المعاني أو تعددها فضلا عن الجمع بين متناقضاتها.
يتبع